الجودة : علي اليامي
( هذه مشاهدات واقعية عاشها أحد صحفيي التايمز بمنطقة غرب أفريقيا نقل من خلالها كيف تموت الأحلام عبر الصحراء والمتوسط لشباب تلك البلدان حين يفكرون في الوصول إلى أوروبا فلا يجنون غير الضياع بينما تعيش أسرهم الحسرة الأبدية على فراقهم )
.. كانت معرفتي بعائلة آني عن طريق عثماني ذيم ديوني سيرسي وذلك حين كلفني رئيس مكتب صحيفة التايمز بوسط غرب- أفريقيا بإجراء تحقيق صحفي عن الأسباب التي تجعل الشباب من غرب أفريقيا يخاطرون بكل شيئ من أجل الوصول إلى أوروبا عبر (طريق الموت) .. وبالفعل أنطلقت للبحث عن عائلات فقدت عدد من أبنائها في هذه الرحلة خلال العامين الماضيين.
الموت المحتوم
.. عثماني – وأحد هؤلاء المغامرين – كان قد حاول الوصول إلى أوروبا من السنغال عبر غامبيا عن طريق مايعرف بالطريق الخلفي وتم القبض عليه في ليبيا و أرسل إلى السنغال.. بعد رجوعه عمل مع مرحل آخر يدعى موسى كيبي على بذل النصح للشباب الآخرين بعدم الإقدام على محاولة السفر عبر هذا الطريق واطلعوهم على الأهوال التي تنتظرهم من مخاطر الصحراء والقراصنة الليبيين، و المراكب المتهالكة والأمواج الهائجة خاصة المهاجرين الذين لايجيدون السباحة.
حكايات حزينة
…`توجهت بالمواصلات العامة مباشرة إلى (قيودري) حيث يقيم عثماني ومنها زودنا دراجته بالوقود و اتجهنا مباشرة إلى (تونجو) حيث يوجد ثلاثة تجمعات سكانية صغيرة بين حقول الفول السوداني .. هناك رأينا إمراة وبعض الأطفال يجلسون على أسرة الحطب خارج خيمتهم ولم نشاهد رجال في الجوار .. عدد من النساء سارعن إلى التواري حين شاهدن مقدمنا إلا سالماتا بولو ديالو التي كانت أكبرهن سناً وحين أقتربنا منها خرجت النسوة الأخريات وهن يحملن أكواب بلاستيكية وقدمن لنا الماء.. وقدمني عثماني إليهن .. كانت ديالو إمرأة ناعمة في كلامها وأخذتني في رحلة عبر تاريخ أسرتها .. أخبرتني بأن أبنها الأكبر أمادو كان قد ترك القرية وسافر إلى جمهورية الكنغو الديمقراطية وقضى عدة شهور يعمل في المناجم وعندما لم يستطع توفير المال الكافي توجه إلى ليبيا على أمل أن يجد فرصة للسفر نحو أوروبا .. وفي أثناء حديثها أشارت بيدها نحو خيمة غير مأهولة قائلة ( ذاك منزله ) .. أمادو لم يتمكن من تحقيق حلمه بالوصول إلى أوروبا .. أخبرتني كذلك أن إبنها الثاني ( جيبي ) قام بالمحاولة نفسها ولكنه غرق على الساحل الليبي.. ليس ذلك فحسب بل أخبرتني السيدة ديالو أن زوجها قد ذهب ووقهتا إلى قرية ليست بعيدة ليعزي واحد من أصدقائه الذي فقد أبنه غرق مع أربعة آخرين قبل يومين في البحر المتوسط.
ضياع الأمل
.. بعد عدة شهور رجعت مع يوني إلى القرية للحديث مع الأسرة ذاتها وتكفل ديوني بالحديث مع عثماني بينما قمت أنا بالترجمة من البولاري إلى الإنجليزية وقضينا ساعات طويلة في إجراء المقابلات مع الأهالي .. عدت إلى ( تونجو) أكثر من مرة بصحبة المصور إكسومي أوليروس وكانت هذه الرحلة مختلفة تماماً عن سابقاتها لأنها استغرقت الكثير بسبب الطريق الذي انتشرت فيه الحفر وكانت الحرارة تصل إلى 116 درجة فهرنهايت داخل السيارة المكيفة. بعدها قدمت أكسومي إلى العائلة وبدأ في التقاط الصور لحياتهم اليومية .. جلست إلى جانب السيد (آني) باعتباره الأب الروحي للعائلة وبدأت في سؤاله عن أفراد العائلة وقال بنبرة حزينة ( مر وقت صعب منذ رحيلهما .. أنا الذي منحتهما الإذن بالسفر عبر تلك الرحلة الخطرة .. سوف أعيش أحمل هذا الذنب إلى الأبد) .. عملنا حتى الساعة السابعة مساء بعدها غادر السيد آني برفقة بعض رجال القرية إلى المسجد الصغير للصلاة .. حينها كانت أخت السيد آني ( حليماتا ) مشغولة بغربلة الذرة في الحقل وتتبعناها إلى الخارج وأكسوم يلتقط الصور .. بعد دقائق معدودات سمعنا صوت سعال حاد … إنه ( أداما ) الإبن الثاني المتبقي للسيد آني كان قد خطط للسفر إلى أوروبا ولكنه مرض الآن يقف قبالة السور عندما اشتد به السعال … عاد السيد آني من المسجد وأتجه نحو أداما .. وقف إلى جانبه ومسح ظهره عندها بدأ السعال يتوقف . حاول السيد آني إعادة الفتى إلى خيمته إلى أن الأخير انهار بين يديه وكان جسمه بارداً .. وأخيراً استطاع والده أن يعيده إلى داخل الخيمة. وصرخ السيد آني ( لقد مات … لقد مات )… أحاطت النساء والأطفال بالخيمة وبدوا في البكاء وتجمع الجيران . إتجه الرجال إلى الداخل إلى حيث يرقد جثمان أداما وبقيت النساء في الخارج يعزين بعضهن البعض.. والآن كل آمال عائلة آني معقودة على أكتاف إبنها آرونا البالغ من العمر 14 عاماً فهو الوحيد المتبقي من أبنائها.
.. تلك المرة الثانية التي أشاهد فيها موضوع قصتي يموت أمام عيني . كانت المرة الأولى حول فتاة عمرها 16 عاماً مصابة بالإيبولا في سيراليون وتوفيت أثناء قيامي مع المصور جيفري جتيلمان بتسجيل قصتها.
.. حينما تحركنا إلى تامباكوندا – أقرب مدينة – قضينا ساعات الرحلة الأربعة في صمت كامل .