بقلم : تهاني الحميري
حين تتملكني الدهشة من نوعية بيئة العمل الرائعة التي يظهر فيها موظفو الشركات الأجنبية الكبرى أسأل نفسي: ترى لو كنّا نحن العرب نمتلك هذه الأوضاع المثالية داخل شركاتنا ومؤسساتنا فهل نستطيع أن نبدع بالقدر نفسه ؟! والإجابة الحاضرة بالنفي لا تتأخر كثيراً في كل الأحوال. ولا أعتقد أن السبب خلل جيني متجذر في تكويننا الفسيولوجي يجعلنا أقل مهارة أو أن السر يكمن في اختلاف الشعر الأشقر ولون العيون الزرقاء ، بل الأمر متعلق بتكوين نفسي خاص نمتاز به نحن دون غيرنا يؤهلنا بامتياز لأن نكون أقل إبداعاً منهم في كل شيئ لأن غالبية موظفينا بالدول العربية ترفع شعار : القوانين وضعت ليتم خرقها ! ولهذا أصبح تطبيقها والالتزام بها ضرب من التخلف إن لم نقل نوع من الغباء . لذلك نرى في كثير من مواقع العمل أنّ الموظفين يستثمرون أيّ فسحة لتعطيل مفعول تلك القوانين . وحتى لا أظلم أحداً سأقارن بين وجهي معادلة المرونة في العمل، وسأبدأ بمن يعتبرون المرونة فسحة خاصة، فهؤلاء استثمروا وقت الدوام الرسمي أعظم استثمار واستطاع بعضهم إتقان كثير من الفنون والمهارات الفردية والجماعية مثل حياكة الصوف، وتعلّم إعداد الوجبات الأجنبية اللذيذة من الإنترنت، ومواكبة أحدث صرعات الموضة، وطرق التخسيس بخمسة أيام فقط، وتجهيز الخضراوات لطهيها لاحقاً في المنزل.. هذا على الصعيد بنات حواء ، أما بالنسبة للرجال فنجدهم أتقنوا لعبة سوليتير، وبنوا مستعمرات وقلاع حصينة في (كلاش أوف كلانز) ووصلوا أعلى المراحل في (كاندي كرش) .. والأدهى في الأمر أنّ المرونة في العمل وصلت إلى حدّ جعل بعض الموظّفين يداومون يوماً واحداً في الشهر، هو يوم استلام الرواتب! ولا يقتصر الحال على الأفراد بل الصورة تتجلى على مستوى الدول التي تكاد البيروقراطية تقتل مؤسساتها، فتتكدّس معاملات الناس على طاولات الموظفين حتى إشعار آخر، وهذا الإشعار الآخر هو موعد الانتهاء من التسلية التي يقضي فيها الموظف ( المحترم ) وقته حسب حالته المزاجيّة.
على الوجه الآخر من المعادلة، تبرز إيجابيات المرونة، التي قد تكون في بعض الأحيان ضرورة أكثر منها امتيازاً، والتي لا تتوقف على ساعات الدوام فقط- أي تسجيل مواعيد الحضور والانصراف – بل تتجاوز ذلك إلى طريقة أداء هذا العمل، فقد تفرض بعض الإدارات أداء الأعمال بطريقة معينة، رغم أنّ الموظف يستطيع اتّباع طرق أخرى أكثر راحة وإمتاعاً بالنسبة إليه، وهنا يجب أن تمنحه الإدارة حرّية أداء عمله بالطريقة التي يرغب بها، لأنّها بذلك تفسح المجال أمامه للإبداع وابتكار أفكار جديدة.
في الواقع لا يقتصر هذا الأمر على المؤسسات التجارية أو الخدمية، بل يتعدّى ذلك إلى المؤسسات التعليمية أيضاً، وهنا الطّامة الكبرى، إذ يعتقد كثير من الخبراء أنّ أساليب التعليم التقليدية الجامدة لها أكبر الدور في تراجع مستوى التعليم في عالمنا العربي، وأبرزها اللّجوء إلى أسلوب التلقين، الذي بات من المنقرضات في العالم المتقدّم، ونحن الذين ارتضينا لأنفسنا اسم العالم الثالث، آثرنا الاحتفاظ بهذا اللقب عبر تمسّكنا بثوابت تجعلنا غير قادرين على التقدم خطوة واحدة نحو العالم الثاني، ومن أهمّها التّعليم.
وحتى نكون أكثر انصافاً وموضوعية فإن الإدارة ليست وحدها المطالبة بالمرونة، ولعلّ أسوأ ما في الأمر أن يتّبع الموظّف سياسة “العبد المأمور” التي تعني الطاعة العمياء لأوامر المدير مهما ترتّب على هذه الأوامر من ضرر قد لا يدري به صانع القرار، وبهذا يتجرّد الشّخص من أي تفكير إيجابي ظنّاَ منه أنه يقوم بعمله على أكمل وجه أو ربّما لثقته العمياء بالمدير وتقديسه لآرائه، أو لأنه يخاف من فقدان منصبه، أو لأنّه لا يمتلك حس المسؤولية الذي يدفعه إلى توضيح سلبيات الأمر الموجّه إليه. وفي الحقيقة هذه الظاهرة تعدّ نفاقاً، وهي مرض اجتماعي خطير تراكم عبر السنين وأنتج سلالات من الأوبئة المنتشرة في المجتمع، وتظهر أعراض هذا المرض في عبارات ساذجة موروثة، أبرزها: “حكم القوي على الضعيف”، و (العين لا تعلو عن الحاجب) وغيرها من الأقوال التي تدلّ على استفحال المرض، والعلاج يبدأ من استبدالها بـ (خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) و(الساكت عن الحق شيطان أخرس).
ولنكون واقعيين، تزخر حياتنا بالكثير من الأحداث والمواقف التي نكون حريصين فيها على إرضاء الطرف الآخر، و معالجة هذه المواقف يجب أن تتمّ في إطار من المرونة والتكيّف وليس في إطار النفاق البغيض. فالمرونة تنبع من القوة والحكمة وتتولد نتيجة الثقة بالإدارة والإيمان بأنه كلما علا المنصب زادت مساحة الرؤية المتاحة، ولهذا نجد من المناسب أن يقوم الموظف بتنفيذ أوامر الإدارة طالما أنّها لا تسبب ضرراً، حتى وإن كان هذا الموظّف يعتقد بوجود حل أمثل للقضية المطروحة مع الحرص على تبليغ رأيه في الوقت المناسب، فالشخص المرن شخص ذكي لديه القدرة على التفاوض وإيجاد الحلول المشتركة، مما يزيد فرصة النجاح. أمّا النّفاق فينبع من الضعف ويتولّد نتيجة انعدام الثقة بالنفس ويرتبط بالمفاهيم السلبية المتعلقة بالاستسلام للأمر الواقع والركون للكسل.
قد يكون من الصعوبة بمكان تطبيق هذا الأمر على أرض الواقع العربي، لكن إذا استطعنا تجاوز حدود البيروقراطية المهنية التي بنيناها نحن فإننا سننجح بالانتقال إلى أفضل الأساليب الإدارية في تسيير مؤسساتنا وموظفينا، ولاشك ان المرونة أحد أهم الأساليب الإدارية التي تشرق كالشمس إذا وجدت البيئة الصحية الملائمة لها وحين يكون شعارها : ( لا تكن ليّناً فتعصر، ولا قاسياً فتكسر).