بقلم :تهاني الحميري
سمعت قصة طريفة تقول أنّ عربياً كان يتابع نشرة الأخبار فسمع أنّ عدد ضحايا حادث تصادم قطارين في موسكو بلغ 111 شخصاً، فقال لزوجته مباشرة: “رقم جميل، أودّ شراءه”!.
هذه القصّة ذكَرتني بأحد الأصدقاء عندما جالسني يوماً وهو يتفحّص ساعته الجديدة بسعادة غامرة، ثمّ سألني: كم تتوقّعين أن يكون سعرها؟
لم أبالغ كثيراً حين قلت له إنّ سعرها قد يتجاوز الألفي دولار، لعلمي برغبته باقتناء الأشياء الثمينة والمتميزة. ولم أكمل جوابي حتى رمقني بنظرة صفراء ساخطة.. ثمّ قال: إن سعرها يتجاوز مئة ألف دولار!
يا إلهي.. جاءتني عبارته كالصاعقة، لم يخطر في بالي أبداً أن يقتني صديقي ساعة بهذه القيمة!
دار بيننا حوار طويل حول الساعة، لم أسأله من أين اشتراها لعلمي بمصادره، لكن أكثر ما شغلني: ماذا تستفيد؟.. ماذا تشعر؟.. وكانت إجابته واحدة: أبحث عن التميّز.
لا يزال هذا الموقف يقفز إلى ذاكرتي كلما جلست إلى أحد هواة اقتناء الأشياء الثمينة، فهذا يتفاخر بسيارته الفخمة.. وذاك بحذاء يشتريه من مصمّم إيطالي لا يصمّم خلال سنة كاملة سوى مئة زوج من الأحذية لأشخاص محدّدين حول العالم.. وآخر يتباهى بمنزل أسطوري.. وأخرى تتبختر بفستان صممّه خصيصاً لها المصمّم العالمي الفلاني.. حتّى أنّ الأمر وصل إلى صغار الأطفال الذين يتفاخرون بالأجهزة النقالة والآي باد والبلاي ستيشن وما شابهها!..
هو السؤال ذاته الذي يشغل ذهني: لماذا؟
الله جلّ شأنه الرّازق المنان يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده، ولكلّ ذي نعمة أو رزق أن يتفاخر بما أنعم الله عليه من نعم. ولست هنا لأحكم على من يهوى هذه الأمور بحكم قد لا يناسبه أو لا يعجبه، فأنا كغيري من بني البشر أتابع وأشتري وألبس وأقتني وأغيّر سيارتي وأطمح لبيت أفضل، وأحبّ أن تكون لدي كل هذه الأشياء الجميلة.. لكنّ ما يؤلمني حقّاً أن تجلس إلى أحدهم فتكون هذه الأشياء هي محور حياته واهتمامه ومستقبله.. لا بل ويحاكمك من خلالها، فأنت في نظره بما تجاريه بما يقتني!.. لذا إيّاك أن تخطئ وتسأل أحدهم: “هل نظارات (فيرزاتشي) تردّ الأشعة فوق البنفسجية؟!”.. أو “هل بدلة (أرماني) بثلاثة أكمام مثلاً؟!”.. و”هل تستطيع سيارتك التحليق فوق الغيوم؟!”.. أو حتّى: “هل حذاؤك يسير بسرعة 60 كم في الساعة؟!”.. أو هل يستطيع هاتفك أن يجري اتصالات مع المخلوقات الخفيّة!
إيّاك.. فهذه من المحرّمات في عالم عشّاق الماركات والرفاهية..
ثقافة.. وهوس
من المواقف الطريفة التي قد تواجهك، أن تأتيك طفلتك الصغيرة، وتقول:
– بابا، موبايلي بحاجة إلى تغيير.
فتسألها: لماذا؟.. لتجيبك:
– أصبح قديماً.
فتعترض على ذلك بأنّه مازال يعمل جيّداً، لتفاجأ بقولها:
– صديقتي فلانة اشترت الموديل الأحدث!
ربّاه.. أنّى لهذه الصغيرة من يقنعنها؟!.. وهكذا دواليك، تشعر أنّك تعيش في دوامة، مهما حاولت أن تلهث خلف هذه التقنية تجد نفسك تدور في حلقة مفرغة.
السؤال الأهم: لماذا يحرص كثير من الناس على متابعة هذه الأمور، ومتابعة أخبارها، ومن يقتنيها، ومن هي الفنانة التي اشترت منها؟.. وما آخر ما اخترعته (آبل)؟.. ومن يمتلك قطعة أثمن؟
لماذا أصبحت محور حياتهم؟!
متى نتحوّل من مجرد سوق استهلاكية لا همّ لها سوى الشراء، إلى مستخدم ذكي، يشتري ويقتني ويستخدم لكن باعتدال؟..
ماذا سيقول المفكر مالك بن نبي لو كان بيننا؟.. وهو الذي صنّف الناس إلى ثلاثة: أشخاص يفكرون بعالم الأفكار وهم المفكرون، وأشخاص يفكرون بعالم الأشخاص، وآخرون يصبّ تفكيرهم في عالم الأشياء.. شئنا أم أبينا أصبحنا نفكر بعالم الأشياء، طواعية أو كرهاً، ولا مفرّ لنا.
شخصياً أحاول ما استطعت لكنني أدرك كغيري أنّها أصبحت ثقافة، وهذه الثقافة تتمدّد وتنتشر بين مختلف الأجيال بلا قيود.
وفي هذا الإطار ثمّة أمر يحيّرني ولم أجد له تفسيراً، وهو ولع كثير من الأشخاص بالأرقام المميزة، إذ تجد بعضهم يدفع مئات الآلاف ثمناً لرقم سيارة، انتبهوا جيّداً، المبلغ يدفع ثمناً للرقم وليس للسيارة!
لا أحد يستطيع أن ينكر على أيّ شخص رغبته بالتميّز، فكلّنا كذلك، لكن التميّز المطلوب ليس في اقتناء ساعة بسعر سيارة أو بيت.. ولا في ركوب سيارة تكلّف ما يكلّفه بناء مدرسة!
وهذا ما علينا تربية أبنائنا عليه، ففي الواقع، سيسعدك كثيراً لو أنّ ابنتك جاءت لتقول لك:
– بابا، أحتاج إلى تغيير القصة التي اشتريتها لي، لم ترقني الفكرة.
عندها لن تمانع أبداً، لأنّك حينها ستفهم أن ابنتك بدأت تدرك ما يروقها ولا يروقها من الأفكار.
وفي واقع الأمر نحتاج إلى تعاون وثيق بين الأسر والمؤسسات التربوية، لكي ننشئ جيلاً أكثر اهتماماً بالأساسيات والضروريات، بحيث يكون ممن يستطيع مستقبلنا الاعتماد عليه، وهذا لن يحدث إن لم يقتنع هذا الجيل بأن التميّز لا يكون بمقدار ما نمتلك من رفاهية، وإنّما يكون في الفكر والإبداع.. وهو ما أكّده الفيلسوف والحكيم اليوناني سقراط عندما جاءه رجل يتبختر أمامه ويتباهى بجمال هيئته وحسن هندامه، فقال له سقراط: “تكلّم حتى أراك”.