علي اليامي : القصيم
رغم مرور ما يزيد على قرن ونصف من الزمان على حدوثها، إلا أنها لا تزال تروى في المجالس، وتجد فيها الجدات مادة ثرية ليروونها لأحفادهن حول المواقد المنطفئة في ليل الشتاء الطويل، حيث يجدن فيها غنى عن دروس الوفاء، ورد الجميل للآخرين، التي تعد سمة أصيلة لأهل شبه الجزيرة العربية
إن لم يوثق تلك القصة الرواة بالنقل، لقيل إنها ضرب من الخيال، خاصة أن أبطالها من صفوة القوم والمجتمع في ذلك الزمان، حيث امتد مسرحها ما بين أرض نجران وبلاد الرافدين
فقد هاجر الشيخ مانع بن جابر أبو ساق ـ رحمه الله ـ من نجران إلى العراق في رحلة استمرت طويلا تارة على ظهور الجمال وأخرى سيرا على الأقدام في رحلة شاقة حتى أعياه السفر ومرض مرضا شديدا وتعرض لإصابة بليغة
ولما وصل أرض العراق فاستضافته سيدة عراقية تدعى «ضبوعة» وكانت ذات مال وجاه وغنى، حتى أطلق عليها أهالي بلدتها في العراق لقب «أم الكنوز»
واهتمت ضبوعة بالشيخ جابر واعتنت بحالته واستضافته لفترة من الزمن ليست بالقصيرة حتى استعاد عافيته وصحته، وعندما بلغ الشيخ من العافية ما يسمح له بالسفر، استأذن السيدة العراقية العجوز ضبوعة للعودة إلى دياره ومسقط رأسه نجران
وقال «أوصيك وأعرفك بنفسي أنا الشيخ مانع أبوساق شيخ ربعي فإذا تغيرت الأحوال وأحسستي بالحاجة لمساعدة؛ فأنا لك سند واسألي عني وعن «صاغر»، وإذا بلغتيها سيدلونك علي وأنا ابن لك في نجران»
فما كان من ضبوعة إلا أن قابلت دعوة الشيخ بضحكة وردت قائلة «أنا ضبوعة المال في العراق يقصدني الشيخ والحاكم والجيوش» كيف أحتاج وأنت بعيد في جنوب الجزيرة؟وبعد أعوام عدة قدمت إلى صاغر في نجران عجوز تمشي بارتجاج ورؤية غير واضحة وتؤشر بيدها وكأنها تنادي خادما يروي، حيث سألته أين أجد الشيخ مانع أبوساق، فأخبرها بأنه خادمه وهذا قصره، فسألته هل يحفظ الشعر فأجابها نعم أنا خادم الشيخ فطلبت منه إنشاد:لا تأمن الدنيا تأتيك ضبوعةمن يأمن الدنيا كون هبيل الفواديوالمقصود في معنى البيت أن الدنيا ليس لها أمان ومن يأمنها لا يملك قلبا
فسمع الشيخ صوت الخادم فنزل من قصره الطيني مسرعا إلى ضبوعة وحملها على ظهره، وصعد بها إلى أعلى داره ووضعها بين النساء وأخبرهن بأنها أمه ضبوعة لها حق الإقامة والأمر والنهي وكساها وأكرمها وخصص لها دارا أشرف بنفسه على تجهيزها وسكنت في داره حتى وفاتها المنية
يقول إبراهيم علي أبوساق «إن لا تأمن الدنيا تأتيك ضبوعة ما يأمن الدنيا كون هبيل الفوادي» صار مثلا يردد إلى يومنا هذا عند أهالي نجران وخاصة كبار السن ودرسا في بر الوالدين والإحسان للناس