علي اليامي
… كان يحدثني وهو يسترق الكلمات استراقاً .. يهمس أحياناً وفي مرات كثيرة يستعين بالإشارة كأن اللغة المنطوقة تعجز عن تصوير حالته أو ربما يخشى أن تستمع الجدران إلى كلماته العاجزة فتسرع بها إلى آذان المدينة فيذيع خبر ضعفه وقلة حيلته بين الناس وهو الذي لا يملك في هذه الدنيا غير أشلاء كرامته المطحونة و بعض من عزة نفس تتقاذفها رياح العوز يميناً ويساراً … ( فارس ) مثل آلاف مؤلفة في عالمنا العربي يعيش حالة غير مرئية من الفقر المستتر .. يرتدي ثوباً من (النفاق ) الاجتماعي الثقيل بفضل تراكمات المظهر الزائف … يقبع مثل كثيرين خلف قضبان التعفف الإجباري .. يستلفون كل شيئ حتى الفرحة والإبتسامة لتبدو صورتهم أجمل في نظر الآخرين وما أدراك ما الآخرون!! قال لي وفي صوته رنة حزن عميقة إنه يتحاشى الناس صباحاً ومساءً حتى يتمكن من مواصلة حياته دون أن ينكشف سره … وجميع أحلامه مؤجلة تحت وطأة الحاجة .. يتسلل في أواخرالليل مثل الطيف إلى المخابز والبقالات ومحلات الخضار يلتمس ما يسد رمق أبنائه تحت ( بند ) السداد الآجل. كثيراً ما يتغيب أطفاله عن مواعيد الدراسة لأنه لايملك دراهم معدودات نظير إفطارهم، وهو لا يستخدم السيارة إلا في الحالات الإضطرارية وثمن الوقود هو السبب !! وفوق هذا وغيره يسكن في دار مستأجرة لأنه ببساطة عاجز تماماً عن استكمال بناء منزله منذ عشر سنوات فالراتب الذي يتجاوز الثلاثة آلاف ريال بقليل لا يكفي حتى لسداد مطلوبات الحياة اليومية في أدنى مستوياتها .. كان يسرد علي هذه التفاصيل المؤلمة وهو ينازع الفشل بل وصل به اليأس ليقول لي ( لن أكون سعيداً إلا بعد الموت!)
.. حالة ( فارس ) هذه ليست فريدة بل هي نموذج لآلاف مثلها تعيش بيننا دون أن نراها أو نحس بها .. رجال يتحملون جبال من المعاناة ولكنهم يظهرون وجهاً آخر خوفاً من نظرة الأقارب و القبيلة .. لا يسألون الناس شيئاً مهما بلغ بهم سوء الحال .. يكتمون المشقة والعنت والحاجة حتى يُرضون المجتمع من حولهم ولا يبدون نشازاً وسط الجميع .. إنهم فقراء تحت طائلة الصمت .. أنظر حولك ربما بقربك واحد منهم أو أكثر!!