تقرير : محمد محمد نور
.. و كأن (يفجيني ليبيديف) مالك صحيفة الإندبندت اللندنية الشهيرة في العام 2012م قرأ المستقبل حول الصحافة عندما قرر وقف النسخة الورقية من الصحيفة والاكتفاء بالموقع الإلكتروني التابع لها ليعلن بذلك أن الصحافة الرقمية هي القادم الجديد على حساب نظيرتها التقليدية وقال وقتها ما نصه (نعلن اليوم قرارًا تاريخيًا، بتبنى المستقبل الرقمي حصرًا في وقت يقرأ صحافتنا مزيد من الناس في أماكن أكثر من ذي قبل ).وها هي الأيام تثبت صدق ما قال الرجل ففي أواخر العام نفسه سارت مجلة نيوز ويك الأمريكية التي يزيد عمر عن 80 عاماً في الطريق ذاته بتوقف نسختها الورقية وتحولها إلى العالم الرقمي ، وهكذا كان حال عدد كبير من الصحف والمجلات العالمية وما زالت الصحافة التقليدية تفقد مزيداً من الأراضي لصالح وسائل و وسائط الإعلام الجديد .. فهل تواصل الصحف الورقية مواصلة التنازل عن ( مرابعها ) التاريخية في ظل هذا الاجتياح الرقمي المذهل .
بداية الطوفان
يعود صدور أول نسخة صحفية إلكترونية في العالم إلى عام 1993م حيث أطلقتها صحيفة سان جوزيه ميركوري الأمريكية ، تلاها تدشين صحيفتي (ديلي تليجراف والتايمز( البريطانيتين لنُسختهما الإلكترونية في العام 1994م، وعربيًّا أصدرت أول صحيفة عربية نسختها الإلكترونية منذ أكثر من ثلاثة عشر سنة وهي صحيفة الشرق الأوسط الصادرة من لندن، و تزامن معها إصدار النسخة الإلكترونية لصحيفة النهار اللبنانية. وتُعد صحيفة إيلاف التي صدرت في لندن عام 2001م أول صحيفة إلكترونية عربية متكاملة ، أما اليوم وبعد مُضي ما يقرب من 12عامًا على هذه التجربة فإنه بإمكان متصفح الإنترنت العربي العثور يوميًّا على المزيد من الصحف الإلكترونية الوليدة، ، ويوضِّح تقرير صدر عن مركز (بيو ) للأبحاث مؤخرًا تناول تحديات الصحافة الورقية والإلكترونية ومستقبلهما، أن مزيدًا من الأمريكيين يتجهون إلى الإنترنت لمعرفة الأخبار، في مقابل انخفاض قراء الصحف المطبوعة أو الورقية.
الأرقام تتحدث
ظلت الاحصاءات الخاصة بمبيعات الصحف الورقية تسجل تراجعاً مضطرداً خلال السنوات العشر الماضية في الوقت الذي اظهرت احصاءات موازية على اتساع مساحة الصحف الإلكترونية عبر الإنترنت فقد كشفت هذه الإحصاءات عن تراجع كبير في أعداد النسخ الورقية المطبوعة للصحف المصرية يومياً من 2 مليون في العام 2010م إلى 800 الف نسخة مع بداية العام 2015م . وفي لبنان جاء إغلاق صحيفة السفير اللبنانية أبوابها في بداية العام الحالي بعد أكثر من 40 عاما على الصدور مؤشراً قوياً على التحديات التي تواجهها الصحف الورقية في ظل المنافسة الشرسة من جانب الصحف الإلكترونية و وسائل الإعلام الحديث .وعالمياً بدأت مظاهر تراجع الصحافة الورقية تعلن عن وجودها بخسارة وصلت إلى ثلاثة مليارات و400 مليون دولار منذ العام 2008م في شركة نيوز كورب المملوكة لليهودي المعروف روبرت مردوخ الذي قال حينها ( لقد أسأنا جميعا تقدير تأثير الإنترنت على حجم الإعلان في الصحف ) وأصدرت شركة ( زينيث أوبتي ميديا ) تقريراً في الوقت ذاته أشارت فيه إلى تدني حجم الإنفاق العالمي على الإعلان في الصحف عاماً بعد عام مقارنة بالمحطات التلفزيونية و الوسائط الإعلامية الأخرى على شبكة الإنترنت .
احتمال وارد
شبه بعض الباحثين في الحقل الإعلامي الحالة الصحافة الورقية الآن بالموت إكلنيكي لوجودها بين عالم افتراضي يتطلب شروط تقنية ومجتمعية، وواقع حقيقي ورقي يلقى من الرقابة والإحباط ما يلقاه، كما يرى أن أصغر مدوّن في العالم يملك إمكانية أكبر لتحقيق السبق الذي يبتغيه وينشره، فأمامه – كما يقول هؤلاء الباحثون – أفق واسع من الحرية الافتراضية التي مهما وضعت عليها القيود يمكن اختراقها وتمرير الحقيقة . وأن الفضائيات هي الأخرى قتلت فرصة السبق تماماً بالنسبة للصحافة المكتوبة ، بينما يرى د. سعود صالح كاتب أستاذ الحاسوب وتكنولوجيا الإعلام ومهارات الاتصال بجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وعضو مجلس إدارة جمعية الإنترنت السعودية في كتابه (هل الصحافة الورقية في طريقها للانقراض ؟) أن الوضع الذي تعيشه الصحف الورقية لا يعني بالضرورة حتمية انقراضها وزوالها نهائياً من الخارطة الإعلامية وأن الإعلام الإلكتروني يشكل خيار آخر للمتلقي وليس بديلاً للإعلام المطبوع، وأنه فتح أبواب ربح كبيرة للمؤسسات الصحفية، فالانقراض – حسب كاتب – احتمال وارد في حق الصحف الرافضة للتغيير أو غير القادرة عليه، وأن الحل الوحيد للنجاة على المدى الطويل يتمثل في قيام المؤسسات الصحفية بتعديل الأساليب الإنتاجية والتحريرية بما يتلاءم والتغيرات في التكنولوجيا ورغبات القراء. فالإعلام الجديد هو امتداد للقديم، والإعلام الرقمي يختلف عن الإعلام القديم بالتفاعل، والتفاعل هو قدرة وسيلة الاتصال الجديدة على الاستجابة لحديث المستخدم تماماً كما يحدث في عملية المحادثة بين شخصين .
تفاؤل
يقول مدير مركز الإهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية السابق والإعلامي المصري المعروف عبد المنعم سعيد إن الكلمة المطبوعة تواجه مازقاً كبيراً في كل أنحاء العالم نتيجة ما اسماه بطغيان العالم الرقمي مشيراً إلى أن المنافسة اليوم لم تعد بين هذه الصحف والمواقع الإلكترونية فحسب بل أمتدت إلى مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية وأن هذا التحول لم يحدث بين عشية وضحاها إنما عبر تطور وتسلسل منطقي كانت نتيجته هذا الوضع الحالي لكن سعيد يبدو ليس يائساً على مستقبل الصحافة المطبوعة مشيراً إلى أن الصحيفة الورقية مازالت تحظى باهتمام القراء من الاجيال السابقة فلا شيئ – كما يرى – ينتهى كله مرة واحدة، وإنما تأخذ الأمور مراحل انتقالية، وفى حالتنا هنا فإن البداية كانت (الكلمة)، وزاد من رواج الكلمة طباعتها و إحدى المزايا الكبرى للكمبيوتر أنه يكتب ويطبع في وقت واحد بالحجم الذى يراه الكاتب، بل ويمكنه إضافة الصور والأشكال البيانية وهذا العمل يبدو بسيطا وسهلا لمن يعرفه، ولكن بالنسبة للكثيرين يبدو عملية في غاية التعقيد .
تسونامي
في المقابل ترى خبيرة الإعلام والتواصل الاجتماعي السودانية هند تاج السر البلال في حديثها إلى ( الجودة ) أن الصحافة الورقية ظلت تعاني منذ بداية الألفية الثالثة ظروفاً صعبة بسبب الارتفاع الكبير الذي لازم أسعار المدخلات الصناعية بالبلدان العربية عموماً والصحافية على وجه الخصوص وهذا الوضع – حسب هند – جعل الصحافة الورقية تشهد تراجعاً ملحوظاً في الانتشار لصالح الفضائيات في البداية الأمر ثم تواصل هذا التراجع بمعدلات مضطردة في ظل ما وصفته بـ ( تسونامي ) وسائط الإعلام الرقمي لتدخل هذه الصحف مرحلة أخرى من المنافسة غير المتكافئة مما جعل كثير من المؤسسات الإعلامية التقليدية تبحث عن مواعين بديلة لمواصلة رسالتها و توجهت كثير من الصحف العالمية والعربية إلى ساحة الإنترنت خوفاً من الاندثار إضافة إلى أن هذا المجال الرقمي أصبح الآن – حسب قولها – هو الوسط الأكثر جذباً للشباب في ظل الانتشار اللامتناهي لأجهزة الحاسوب والهواتف الذكية . وقللت البلال في حديثها من احتمال انقراض الصحافة الورقية مستشهدة في هذا الخصوص باستمرار القراء في اقتناء الكتب الورقية وسعيهم المتواصل للمطالعة التقليدية رغم حركة النشر الواسعة على المواقع الإلكترونية لهذا الكتب ( مجاناً ) ، مذكرة في الوقت ذاته بالعلاقة النفسية ما بين القارئ والصحيفة الورقية والمصداقية الخبرية العالية التي تحملها هذه الصحف مقارنة بالنشر على المواقع والمدونات على الانترنيت .