بقلم : تهاني الحميري
قام العرب منذ فجر التاريخ بنقل النصوص العلمية إلى اللغة العربية، فالتعريب ليس نشاطاً حديث العهد، وهو من أهم أدوات التلاقح الحضاري الذي أتاح لثقافتنا أن تنفتح على أقطار العالم من حولها دون تحيّز، وتقلّل من اتساع الهوة بينها وبين عوالم التقدم، وتسهم فيها بما يعود عليها وعلى غيرها من الأمم بالنفع العام.
وقد أضحى التعريب في تكنولوجيا المعلومات الرهان العربي الأول، فهو يقدّم فرصاً عديدة للمنطقة العربية في الوقت الحالي، لأن أغلب البرمجيات الموجودة على الشبكة مصنوعة بواسطة مؤسسات غير عربية، ونحن في أمسّ الحاجة للعديد من تلك البرمجيّات، التي تشكّل فرص عمل واستنهاض تقني وتنموي بالنسبة للمنطقة، ولا سيّما أن تعريب لغة تدريس العلوم في الوطن العربي عنصر جوهري في منظومة تنميتها، وخطوة أساسية في تأصيل العلم والأسلوب العلمي في التفكير والسلوك، وتنمية ملكة الابتكار والإبداع. ويجب في هذا السبيل مراعاة ارتباط اللغة القومية بالهوية، وارتباط لغة التعليم بالتنمية.
إشكاليات
تكمن المشكلة بوضع العربة أمام الحصان بالتركيز على قضيّة المصطلح العلمي وتوحيده وكتابته في مقدّمة أي جهد للتعريب، رغم أنّ المصطلح لا يشكّل أكثر من 3 % من حجم المادة العلمية، فلنركز على 97 % من المادة ونترك المصطلح كما هو، وسيأتي بعد ذلك دور اختيار الأنسب بالانتقاء والاستعمال.
ولعلّ المشكلة الأكبر هي الترجمة “الخبيثة”، حيث إنّ الفراغ الناجم عن قصور الترجمة العلمية يتمّ ملؤه حالياً بإصدارات تشيع الفكر الخرافي، وأوهام العلم الزائف، ناهيك عن ظهور فصائل انتهازية استغلّت تعطّش الكثيرين للفكر الديني الأصيل، فراحت تقحم سمومها في العسل لتلحق بعقول أصحاب النوايا الطيبة هؤلاء، وبالدين ذاته، أشدّ أنواع الضرر، وهكذا تشتدّ شيئاً فشيئاً موجات التعصّب والانغلاق وأحادية التفكير، وتخبو بذلك جذوة الإبداع في وجدان صغارنا وكبارنا، في عصر بات فيه مصير الأمم والشعوب رهناً بإبداع أبنائها أولاً وأخيراً.
إضافة إلى أن قصور الترجمة العلمية في عالمنا العربي يعدّ من الأسباب الرئيسة وراء تعثّر جهود تعريب التعليم الجامعي، ويشي بوضوح بمدى تفشّي داء اللاعلمية الخبيث في مجتمعاتنا العربية. وقد أحدث هذا القصور فراغاً كبيراً في نسيج الثقافة العربية وتكوين العقل العربي، الذي بات في حاجة ماسة إلى تجديد منطلقاته الفكرية وعدّته المعرفية للّحاق بركب مجتمع المعرفة، الذي بات شعاره “اللحاق أو الانسحاق”، ومن ذلك حتمية السعي إلى إكساب الفرد العربي القدرة على إجادة اللغات الحيّة، والتعلّم ذاتياً مدى الحياة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه دون زاد متجدد ومنوّع من حصاد المعرفة العلمية والتكنولوجية.
حلول
إنّ الاهتمام بتقييس استعمال اللغة العربية في المجالات كافة أمر مطلوب ولابدّ منه، ويجب ألّا يقتصر على المعلوماتية أو الاتصالات فقط، وعلى مجامع اللغة العربية القيام بدورها نحو حماية اللغة، وعدم الاقتصار على توليد مصطلحات ليس لها آلية استخدام، ولزوم وضع المصطلح العلمي في حجمه الحقيقي بالنسبة لقضية تعريب لغة العلم، ودعوة أعضاء المجامع اللغوية العربية إلى أن يكونوا قدوة في تدريس علومهم بلغة الضاد. ويجب حثّ جميع الأفراد والهيئات والمؤسسات على الالتزام بنصوص القوانين والدساتير في مختلف الدول العربية، والتي تنصّ صراحة على أن لغة التعليم هي اللغة العربية، وعلى جميع أعضاء هيئات التدريس بالجامعات العربية اتخاذ الخطوات الضرورية للبدء في تعريب التعليم الجامعي، والإسراع في تكوين قواعد المعلومات باللغة العربية في مختلف المجالات، استناداً إلى القوانين التي صدرت من الحكومات العربية في هذا الصدد، وإلى توصيات اتحاد الجامعات العربية، وأن تكون السيادة للغتنا في مختلف وجوه النشر العلمي، فالجهود المبذولة في تكوين قواعد بيانات معلوماتية باللغة العربية مازالت مشرذمة ولا يوجد منها ما يمكن الاحتكام إليه، لذا فالعمل على تسهيل تداول الكتب والبرامج المؤلفة بالعربية أو المترجمة إليها بين تلك الجهات بمختلف صورها؛ والاستفادة من إمكانيات شبكة الإنترنت في نشر وتداول تلك المؤلفات؛ يمكّننا من البناء على جهود الأمة، إذ إنّ الترجمة العلمية من أهم مطالب تهيئة مجتمعاتنا العربية للدخول في مجتمع المعرفة.
تجارب ناجحة
كشفت تفاصيل تقرير المعرفة 2016 الذي أعدته مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بالتعاون مع المكتب الإقليمي للدول العربية «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، وتم الإعلان عنه خلال فعاليات قمة المعرفة عن أنّ الإمارات وقطر والسعودية ثلاث تجارب جديرة بالاهتمام من حيث الدرجات المسجلة لديها، ولكونها الدول الثلاث الوحيدة التي حافظت على مراكزها فوق المتوسط في المحاور الرئيسية الثلاثة.
ووفقاً للتركيبة العامة التي ارتكز عليها مؤشر المعرفة العربي، احتسبت 6 مؤشرات قطاعية يمتد كل منها على سلم من 1 إلى 100.
وقد كشفت الدرجات المسجلة عن تفاوتات كبيرة بين الدول العربية، وكذلك بين القطاعات داخل الدولة الواحدة. وتشير مختلف هذه التوجهات التي سيتوسع في تحليلها تباعاً في الفصول الخاصة بالقطاعات، إلى أن هناك دولاً عربية، مثل الإمارات والبحرين وقطر والسعودية، بدأت تحقق في السنوات الأخيرة نجاحات لافتة في مجالات عدة.