بقلم : محمد الغامدي
حدثني أحد الأصدقاء قائلا: في أول محاضرة لي في قسم السياسة سألني الدكتور: لماذا دخلت قسم السياسة؟ فرديت عليه: إنني من عشاق السياسة. قال: ولكن لا تصلح لك فالسياسة للنخب في المجتمع وليس لك ولأمثالك.
الشيء المحبط هنا هو أن هذا الأستاذ الفحل عمل حسب الفكر اليوناني الذي أملى عليه أن المجتمع السياسي يجب أن يقتصر على النخب فقط. وإن كان أرسطو أحد الفلاسفة الذين يرون هذه النظرة فأرسطو هذا طالب بمجتمع مدني أو ما أسماه ” المجتمع البشري”. ولكن روسو الذي عاش زمن الثورة الفرنسية دعا إلى أن يكون هناك اتفاق بين المجتمع والدولة، وربما ما أوصل أوروبا إلى المجتمع المدني هو الثورات الفكرية التي أوجدت نظرية ” العقد الاجتماعي” ، وفلاسفة أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر أدلوا بدلوهم في هذا الإطار، ولكن القرن العشرين حمل معه الفكر الاشتراكي، والكثير من السياسيين استفادوا من النموذج الاشتراكي في تلك الحقبة إلى أن تم إسقاط الاتحاد السوفيتي.. وبدأت مكينة “العولمة” التي أرادتها أمريكا أن تكون نموذجاً حياً تعيش به المجتمعات في جميع أقطار المعمورة، دون أن تتفحص هذه النظرية التي وضعت من أجل مصلحة أهل النفوذ والمال لا غير.. وتخدم البرجوازيين والإقطاعيين.. ولهذا فإن الفلاسفة وهم يرون أنفسهم مع الضعفاء والمساكين لا ترضيهم مثل هذه النظرية، ولهذا ـ أيضا ـ فإن معظم الدول لم تتقبلها، بل أمريكا نفسها انقلبت عليها بعد مرور سنوات قليلة من محاولة فرضها، حين تحولت، بانتخاب دونالد ترامب رئيساً لها، إلى الشعبوية ضاربة بنظرية ” العولمة” عرض الحائط.
هذه التحولات السريعة في الفكر تدلل أن العالم لا يسير في ركود مثلما كانت عليه القارة العجوز، بل إنه يتحرك وفق المعطيات التقنية، والتحولات الفكرية التي تعصف بها هذه التقنية، والتي تتفق المجتمعات في استخدام الآلة ولكنها لاتوافق على استخدام الأفكار التي تصدرها هذه الآلة.
السياسة ليست درساً يومياً نقدمه لطلابنا بل هي عمل تراكمي، والقفز على الحقائق كقفز ذلك الدكتور على تلميذه، فالفكر ينمو مع الزمن، والنخب تتهاوى وتُبنى نخب أخرى.. وهكذا. ومن هنا فإن نظرية ” العقد الاجتماعي” لا تزال عالقة وهي في طور المخاض في دولنا العربية على الرغم من أن العالم بدأ يفكر في شيء آخر، وبدأ ينحو منحى جديداً في سياسته منذ بروز الرأسمالية التي تساند كلمة ” الديموقراطية” ظاهرياً، وهي في حقيقتها لا تقف إلا مع القوي فقط ولا تشرك المجتمع ( أتحدث على مستوى التفكير والتدبير أيضا) في قراراتها.. ولعل ظهور الصين والهند أقلق الديموقراطية الغربية وجعلها تفكر في طريقة تستعيد فيها السيطرة على العالم، ومن هنا ظهرت الشعبوية، ومن هنا نلحظ بروز اليمين المتطرف في أوروبا.. ولعل نهاية التاريخ التي تحدث عنها فوكوياما تكمن في هذه اللحظة وليست في لحظة انهيار الماركسية،وكأنه ارسل رسالة عندما رأى أن ” دول الاتحاد السوفيتي ستدفع الثمن” بل أرى إن الليبرالية التي تدعو إلى الحرية الفردية لا غير هي الطريق إلى السقوط الحتمي للمجتمع السياسي ولما يسمى بالنخب.. لأن دول الاتحاد السوفيتي ليس وحدها هي من يعاني الآن من القطبية الأحادية.
ولن يسعف العالم أي من الفلاسفة أو المفكرين، وهم يعتقدون أن العالم يأتمر بأمرهم دون شعور منه. وهنتنجتون الأمريكي الذي أحيا جارودي وصدام الحضارات بالتأكيد لم يسمع مقولة الأستاذ الجامعي في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة بأن النخب هي من يجب أن تعتمر السياسة لا غير.. ولو سمع هذا لتوجه فورا إلى أن الصراع الآن هو صراع الداخل لا الخارج، وليس صراع الحضارات بقدر ما هو صراع البيئات، تجزأ بشكل ملحوظ في جميع أنحاء العالم، مع الدولة القطبية التي سيطرت على الكرة الأرضية، أو التي اعتقدت أنها سيطرت عليها.
كأننا الآن نحتاج إلى تغيير أستاذ الجامعة كي يغير مفهومة تجاه التركيبة السياسية، ولا نريد مقررات فلاسفة القرون الثلاثة الماضية أو ما قبلها، نريد فلاسفة وأساتذة للقرن الواحد والعشرين، فالأنظمة السياسية بحاجة إلى فكر شعبوي وليس نخبوي لأن العالم يئن من المآسي والحروب وصراعات النخب، فكل ما تنتجه النخب مجرد دمى متحركة حسب أهدافها ومتطلباتها، وليس حسب متطلبات الدولة بمفهومها أو حتى متطلبات المجتمع المدني في أدنى حدوده.. رغم أنني لا أقر بوجود مجتمع مدني سوى بين دفتي الكتب، وهذا ما كشفت عنه الأيام، وما ستكشفه في قادم الأيام، بدلالة أن من كنا نضرب بهم المثل في هذا المسمى ” المجتمع المدني” اتضح عبر وحشية امبريالية، وسقطت أخلاق “إيمانويل كانت” واتضحت انتهازية ” ميكافيللي” ، وانكشفت هشاشة الأحزاب الغربية في دولها، والتي عادة تلعب على حقوق الانسان وتدعو إلى نشر الحرية والعدل والمساواة بينما هي من يكسر كل هذا المسميات، وكأن العالم بتناقض عجيب يعود إلى الأناركية anarchism ، واللاسلطوية هذا العصر قد لا يحدها حدود إلى نهاية العالم.
ليس من مجتمع مدني إن لم يشارك في المجتمع السياسي، ويقف في وجه مثل هذا الدكتور.. وإن كنت أرى ما يلوح في أفق العالم كبديل لـ ” المجتمع المدني” وهو ” المجتمع التطوعي” يذهب بهم إلى الحرية الفردية أو الأناركية. وقد أكتب عن هذا المجتمع في قادم الأيام.