علي اليامي
… يعتبر أدب الرحلات واحداً من المصادر الإنسانية المهمة لمعرفة تفاصيل الحياة في مكان وزمان محدد ، كما أنه يشكل رصيداً علمياً لتوثيق وربط الماضي بالحاضر.
.. الجزيرة العربية وصحاريها كانت دائماً موضع اهتمام لدى المستكشفين والرحالة الأوروبيين وظلت صحراء الربع الخالي على وجه الخصوص لغزاً حاول عدد كبير من هؤلاء الرحالة فك شفرته وسبر مجاهله وكشف أسراره..
… قصتنا هذه بطلاها الرحالة الإنجليزي المعروف ( بيرترام سيدني توماس ) والشيخ معيوف بن عوضات بن السومة الراشدي الذي ينحدر من قبيلة الراشدي البدوية التي عاشت حياة الحل والترحال .. ومسرحها صحراء الربع الخالي.
… الزمان : العام 1930م .. حينها كانت الحياة بسيطة في كل شيء وأدوات البحث والتنقل والمعرفة كانت في رحم التشكيل الأول .. ولم تكن ( قوقل ماب) و (قوقل ايرث) أو أجهزة المساحة و القياسات الحديثة متوفرة بعد ؛ ولكن العزيمة و حب اكتشاف المجهول و الصبر على المعرفة كانت حاضرة لدى برترام توماس بمساعدة الشيخ معيوف و30 رجلاً آخرين من القبيلة ذاتها بينهم الشيخ صالح بن كلوت الراشدي .. كانت المغامرة غير محسوبة العواقب تصدى لها توماس الوزير لدى سلطان عمان .. تجمعت فرقة الاستكشاف في صلالة بظفار عام 1928م مزودة بكل الأدوات والأجهزة المتاحة فحمل توماس بالإضافة لآلات التّصوير بوصلة منشورية، ومقياس الضغط الجوي، ومقياس الرّطوبة، والسّدسيّة، ومؤشّر الوجهة ومقياساً زمنياً.. وثمانية وعشرين فرداً آخرين .. ولكن هذا لم يكن كافياً إلا بوجود الشيخ معيوف بن عوضات الراشدي .. المرشد والموجه والمنظم لرحلة المستكشف توماس الإنجليزي في غياهب صحراء الربع الخالي.
.. لم يكن الشيخ معيوف الراشدي مجرد مرافق في هذه الرحلة فحسب بل كان دليلاً ومرشداً عارفاً بمتاهات الصحراء وتقلبات أحوالها وخبيراً بحركات رمالها وسكناتها وكانت خرائط الرحالة توماس تعتمد في البداية والنهاية على المعرفة الفطرية والخبرة الطبيعية التي تراكمت بفضل السنوات عند الشيخ معيوف وتمكنه من قراءة واقع الصحراء وانتماءه لحياة البادية الموروثة أباً عن جد.
… عند نهاية الرحلة عرض توماس على الشيخ معيوف اصطحابه إلى لندن لتلقي العلم إلا أن الأخير رفض رفضاً قاطعاً هذا العرض مفضلاً حياة البدو والبادية ورحابة الصحراء و مصاحبة الإبل التي تمثل له ولقبيلته كل الحياة خاصة ناقته الملقبة بالقرينية. كما أن الشيخ معيوف رفض السفر إلى لندن خشية لاهتمامه بميراث أجداده من الإبل وحفاظا على دينه وثقافته من تأثير الحياة في لندن.
.. عاد الرحالة الإنجليزي إلى بلده .. ولكن الحكاية لم تنته بعد .. هناك عكف على تأليف كتاب عن هذه المغامرة الاستكشافية الأولى من نوعها في الربع الخالي تحت عنوان ( رحلة عبر الربع الخالي ) نشرته دار كنستيبل وشركاه في العام 1932 وشكل الشيخ معيوف الراشدي وقبيلته محوراً أساسياً في هذا الكتاب الذي أصبح مرجعاً علمياً يدرس في جامعات الشرق والغرب وهو الأول من نوعه عن صحراء الربع الخالي.
.. يقول بيرترام توماس في هذا الكتاب إن رحلته هذه ما كان أن يكتب لها النجاح لو لا خبرة الشيخ معيوف ورفاقة بالصحراء وقدرتهم غير المعهودة بدروبها وتقلباتها . و وصف توماس الشيخ معيوف بالذكاء وحسن التصرف والمعرفة التامة بالصحراء . وتضمن الكتاب صفحات كثيرة عن حياة البدو وشجاعتهم وكرمهم و القصص الشعبية المتداولة بينهم.
كما نشر مقالاً بعنوان (اختراق الربع الخالي) في مجلة جمعية وسط آسيا الملكية عام 1931، و آخر بعنوان (قبائل جنوب الجزيرة العربية) في صحيفة معهد علم السلالات الملكي و بحثاً عن لهجات الجزيرة العربية بمجلة الجمعية الملكية الأسيوية عام 1930م وفي جميع هذه الكتابات كانت الصحراء والبادية حاضرة بكل تفاصيلها التي شكل فيها الشيخ معيوف الراشدي جانباً مهما من خلال مشاركته العملية في أول رحلة عبر صحراء الربع الخالي في صحبة المستكشف وعالم الإنثروبولوجيا الإنجليزي الأشهر ( تيرترام سيدني توماس) تلك الرحلة التي ستظل نقطة فارقة في تاريخ المعرفة الإنسانية.