بقلم : د. محمد بن أحمد بن عبدالله المشيقح
جائحة كورونا التي عصفت بالبشرية في جميع أنحاء العالم- نسأل الله أن يرفعها- سوف تخلف نزاعات حيال الالتزامات التعاقدية الدولية والمحلية, ولا مراء في أن حجر النزاعات ومدارها في تحديد ماهية السبب الأجنبي -جائحة كورنا- الذي أخلّ بالالتزامات التعاقدية, بين ما إذا كان ظرفًا طارئًا أو قوة قاهرة. فهناك اختلاف جوهريّ بين نظريتي الظروف الطارئة والقوة القاهرة والشروط الواجب توافرها لكلّ نظرية.
فنظرية الظروف الطارئة يتوجب لها أربعة شروط: ا- أن يكون العقد الذي تثار النظرية في شأنه متراخيًا, ويعني ذلك أن تكون هناك مدّة زمنية تفصل ما بين صدور العقد وتنفيذه. 2- أن يحصل بعد نشأة الالتزام حادث استثنائي عام, مثل: زلزال, أو حرب, أو وباء. 3- أن يكون هذا الحادث لا يمكن توقعه. 4- أن يجعل هذا الحادث تنفيذ الالتزام مرهقاً، وليس مستحيلا. أما نظرية القوة القاهرة فيشترط لها ما يشترط للظرف الطارئ عدا الشرط الرابع, حيث إنّ حالة القوة القاهرة يسلتزم منها أنه يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً.
ويترتب على الفرق بين النظريتين بناء على الشروط المشار إليها أعلاه، أنّه في حالة القوة القاهرة ينقضي الالتزام التعاقدي, بيد أنّ الظرف الطارئ لا يفسخ العقد وإنّما يُردّ إلى الحدّ المعقول في توزيع الحقوق والخسارة بين الطرفين, ويكون هناك توازن ماليّ بحيث يتحقق العدل بينهما دون إرهاق للملتزم (الوسيط في شرح القانون المدنيّ الجديد, عبدالرزاق السنهوري, ص717).
وباستقراء الأنظمة السعودية, نجد أنّها تناولت القوة القاهرة والظروف الطارئة في العديد من الأنظمة واللوائح وغير ذلك من الأدوات النظامية, فحيال مفهوم القوة القاهرة على سبيل المثال, ما نصّت عليه المادة (الثامنة والعشرون) من نظام الاستثمار التعدينيّ ” إذا منعت قوة قاهرة أو عاقت أو أخرت قيام المرخص له بأيّ من التزاماته في الوقت المحدّد، فإن التعطيل أو التأخير الناتج عن ذلك لا يعد إهمالاً أو تقصيرًا في العمل أو الأداء. ويجب أن تمدّد المدّة التي كانت محدّدة للعمل الذي توقّف أو تعطّل لمدة لا تقل عن مدّة القوة القاهرة بعد موافقة الوزير على ذلك كتابة. ويقصد بالقوة القاهرة في أحكام هذه المادة الأحداث المتعارف عليها أصوليًّا كقوّة قاهرة ناجمة عن ظروف غير متوقّعة وقت إصدار الرخصة، والتي لا ترجع إلى أي من الطرفين وتجعل تنفيذ المرخص له لالتزاماته المحدّدة بالرخصة مستحيلًا.” وكذلك ما نصت عليه المادة (الحادية والسبعون بعد المائة) من النظام البحريّ التجاريّ “ينفسح عقد إيجار السفينة دون تعويض على المؤجر والمستأجر إذا قامت قوة قاهرة تجعل تنفيذ الرحلة مستحيلاً, أو إذا منعت التجارة مع الدولة التي يقع فيها أحد ميناءي الشحن أوالتفريغ.” وكذلك أيضاً المادة (الرابعة والسبعون) من نظام العمل “ينتهي عقد العمل في أيّ من الأحوال الآتية…….5- القوة القاهرة…”.
وفيما يتعلّق بالظروف الطارئة, فعلى سبيل المثال ما نصّت عليه المادة ( الأولى) من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية في فصل التعريفات بـأنّ “الحالة الطارئة: حالة يكون فيها تهديد السلامة العامّة أو الأمن العامّ أو الصحة العامّة جديّاً وغير متوقّع, أو يكون فيها إخلال ينذر بخسائر في الأرواح أو الممتلكات, ولا يمكن التعامل معها بإجراءات المنافسة العاديّة.” وتضمّنت لائحة حصر أضرار الكوارث والحالات الطارئة وتقدير وصرف المساعدة الحكومية للمتضرّرين منها الصادرة بقرار مجلس الدفاع المدني (الملغي) رقم (783) وتاريخ 7/1/1435هـ, الحالات الطارئة ومنها ” الأمراض الوبائية التي ليس لها لائحة خاصّة…”.
ومن الجديد بالذكر أن بعض القوانين والاتفاقيات الدوليّة التي انضمّت إليها المملكة, طبّقت نظريتي الظروف الطارئة والقوة القاهرة, على الرغم بأنّ مصطلح القوة القاهرة ((The Force Majeure ليس محل إجماع, فالبعض منها يستخدم مصطلحات أخرى, مثل (استحالة التنفيذ), ولكن ذلك لا يخلّ بالمعنى وأنّ جميع المصطلحات ترتّب الآثار نفسها, ومن تلك الاتفاقيات: اتفاقية الأمم المتحدة بشأن عقود البيع الدولي للبضائع (فيينا 1980م), حيث نصّت الفقرة (1) من المادة (79) على أنّه لا يسأل أحد الطرفين عن عدم تنفيذ أي من التزاماته إذا ثبت أن عدم التنفيذ كان بسبب عائق يعود إلى ظروف خارجة عن إرادته, وأنه لم يكن من المتوقع بصورة معقولة أن يأخذ العائق في الاعتبار وقت انعقاد العقد أو أن يكون بإمكانه تجنبه أو تجنب عواقبه أو التغلب عليه أو على عواقبه.”
كما من المهمّ الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية تناولت نظريتي القوة القاهرة والظروف الطارئة بمفهوم وضع الجوائح وفق أحكام الشريعة الإسلامية , حيث إن القوة القاهرة والظروف الطارئة يتفقان مع مبدأ وضع الجوائح من ناحية الهدف منهما في دفع الضرر على أصحاب الالتزام في حال وقعت جائحة في ظروف غير متوقعة, ومن الأدلة الشرعية المستند إليها في وضع الجوائح, حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( لو بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة؛ فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ )، رواه مسلم ، وفي رواية له: ( أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح .(
وبعد استعراض نظرية الظروف الطارئة ونظرية القوة القاهرة وتطبيقاتهما في النظام السعودي, لا يمكن الجزم بأن جائحة كورونا تُصنّف على أنّها من قبيل الظروف الطارئة أو القوة القاهرة, ولكن قد توصف بأنها من قبيل الظروف الطارئة في بعض النزاعات التعاقدية وفقاً لتوافر شروط الحالة الطارئة في الالتزام التعاقدي, وفي حال استحالة الوفاء بالالتزام التعاقدي بسبب جائحة كورنا, فيعتبر ذلك السبب قوة قاهرة. وممّا لا شكّ فيه أنّ تقدير ذلك وتحديده يُرجَع فيه إلى القضاء المختصّ وفقاً لبنود الالتزامات التعاقدية بين الطرفين.
ويطالب بعض المختصين بالشريعة والقانون بأهمية سنّ موادّ نظامية يُعرّف فيها مفهوما الظروف الطارئة والقوة القاهرة بتعريف جامعٍ مانعٍ, ويحدّد فيها المسائل المتعلّقة بهما وكيفية معالجتها. وهذا المطلب له وجاهته, إلا أنه من المستحسن ترك ذلك للقضاء لتحديد ماهية الظروف الطارئة والقوة القاهرة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية, وما لا يعترض معها من النظرية القانونية للظروف الطارئة والقوة القاهرة, وقد تتطلب اجتهاداً من السلطة القضائية لسنّ مبادئ قضائية حيالهما, خاصة أنّ الكثير من الأنظمة كما أشرت قد تعرضت للظروف الطارئة والقوة القاهرة سواء أكان في الجانب التجاري أم العمالي أم الإداري أم غير ذلك.
وحيث إنه من المتوقع أن جائحة كورونا ستنشئ نزاعات محلية ودولية مختلفة, فقد يصعب على المحاكم استيعاب الكم الهائل من تلك المنازعات, ومن ثم فإنه قد يكون من الأنسب تسوية وحلّ الخلافات بالوسائل البديلة للقضاء, تستعمل خارجاً عن نطاق المحاكم, مثل: الصلح والوساطة والتحكيم, بحكم ما لتلك الوسائل من مزايا, ومن ذلك المحافظة على العلاقات الاقتصادية والمبادلات التجارية, وسريتها, وتخفيف العبء عن القضاء, وسرعة البتّ في المنازعات, وتوفير المال والجهد والوقت لأطراف النزاع.
وختامًا فإنّ مثل هذه الجوائح، تضع في أذهان المتعاقدين الأولوية عند صياغة العقود الدولية والمحلية على شمول العقد بالبنود المتعلقة بالظروف الطارئة والقوة القاهرة، وكيفية معالجة الالتزامات في حال وقوع الجائحة، وطرائق تسوية المنازعات الناتجة عنها. والاستفادة من نماذج بنود العقد المتعلقة بالظروف الطارئة والقوة القاهرة التي تنشرها المؤسسات والمراكز الدولية مثل: غرفة التجارة الدولية، ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها